زمن سقوط العلماء

- ‎فيمقالات

لا يمر أسبوع منذ بدأت الانقلابات والثورات المضادة فى وطننا البئيس، دون أن نسمع عن سقوط عالم، ونكوصه، وافتضاح أمره؛ آخرهم الذى ذمَّ “أردوغان” إرضاء لـ”ولى أمره” الذى ملأ أرض الحرمين جورًا كما ملأها خمرًا وعهرًا، فلم يجرؤ على نصحه، بل ذهب مذهب (المواطنين الشرفاء!) فنشر”فيديو” للرئيس التركى يعدد “سقطاته”، فى حين نسى “فيديو” قديمًا يمدح فيه الرجل؛ فلما وُضع القديم بجوار الجديد انكشفت “سوأته”.

وسقوط العالم مصيبة، خصوصًا إذا كان من حملة الفقه، وله جمهور ومتابعون، فهم يقتدون به، ويقدمونه على أنفسهم وأهليهم؛ فإذا روَّضه حاكم، أو استأنسه سلطان فقد فتن هؤلاء فى دينهم؛ إذ يعبِّد لهم بذلك طريقى الإفراط والتفريط؛ فمنهم من يغالى ويشتط، ومنهم من يتساهل ويميع، وربما شكَّ آخرون فى الدين نفسه، أو فقدوا ثقتهم فى العلماء جميعًا. لذا لعن الله أمثال هؤلاء المدَّلسين، الساقطين فى وحل الخيانة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) [البقرة: 159].

إن علماء الدين فى الإسلام هم ورثة الأنبياء؛ إذ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فهم أولو الأمر الواجب اتباعهم، أناط الله بهم مهمة البيان وتنوير الأفهام؛ فإن تقاعسوا عن مهامهم هُزمت الأمة وحل بها البوار، وإن جبنوا أو حرصوا على مغانم يأخذونها فقد خانوا الله ونقضوا عهده: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187]، بل يصيرون أخطر من الشيطان على المسلمين كما قال الغزالى فى الإحياء: “إن علماء السوء شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين؛ إذ الشيطان بواسطتهم يتدرج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق”.

ما زلنا -منذ سنوات- نتلقى أخبار هؤلاء “العلماء!” وهم ينكصون، الواحد تلو الآخر، وقد اتبعوا أهواءهم، وجادلوا بالباطل، فلا يزالون يتنازلون حتى ساووا الفاسقين فى ضلالهم وتخذيلهم، وهذا قدر الله فيمن أوحل نفسه -وهو يحمل العلم- فى مهاوى الردى بطرقه أبواب الحكام متسولاً لعاعة من الدنيا، قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف: 5]؛ فما أخطأت العين ما جرى لهم من خسران الدنيا والآخرة؛ فمنهم من رضى بالهوان وبقى مؤيدًا تلك الأنظمة -بباطلها واستبدادها- على طول الخط، ومنهم من انزوى بعد توهج وصيت وقد انفض عنه تلامذته ومحبوه ينتظر كسابقه لعاعة بن حين وحين يلقيها إليه من أفسدوه.

وما كان ربك لينسى ما فعل هؤلاء، إن نسيه الناس، وما كان ليخفى عليه ما يخفى علينا من المقاصد والنيات، ولا يدوم إلا ما يصلح الخلق ويدفع عنهم الضر(فأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) [الرعد: 17]، فالحمد لله الذى كشف سريرتهم وأراحنا منهم، والحمد لله الذى ميز الخبيث من الطيب، وهو غالبٌ لا يُغلب، ولا أسف على من هادنوا الظلمة وتواروا بفتاواهم خلف فقه الغسل والوضوء فى وقت سيلان دماء المسلمين، وقد أضفوا على سياسات المستبدين شرعية دينية، وزينوا الباطل للعوام على أنه الحق. فهل بعد هذا ضلالٌ وإفساد؟

لما دبَّ الفسادُ فى بنى إسرائيل كانت بدايته -للأسف- على يد علماء السوء، لما تنكبوا صراط الله المستقيم وساروا على غير هدى، فأنكر الله عليهم هذا الصنيع وذمَّهم، قال تعالى: (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [المائدة: 63]، وجاء شرعنا الحنيف فحصّن هذا الثغر، وحضَّ العلماء، وحذرهم، وأنذرهم، لكن لا بد من زيغ رغم هذا الهدى، ولا بد من شُبه رغم هذا الإحكام، فكان هؤلاء “الشواذ” وسط إجماع الأمة مثل نقطة سوداء وسط نور يملأ ما بين الأرض والسماء، غير أنه –على ضآلته- يعكر الصفو ويلفت النظر، ويجعل الناظرين يتساءلون: ما هذا؟ إنه الغبش الذى أحدثه الذين سئموا مقاعد الأشراف، وغرتهم مجالس العبيد الحقراء، آتاهم الله العلم فاستبدلوه بالدرهم والدينار، وآتاهم صحبة الأطهار فتركوهم وسعوا إلى مجالسة الطغاة البغاة، ونسوا الأخبار التى جاءتهم من المعصوم تحذرهم من طرق أبواب السلطان أو الركون إلى الظالمين، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إياكم وأبواب السلطان؛ فإنه قد أصبح صعبًا حبوطًا”، وقال: “سيكون بعدى أمراء؛ فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى ولست منه وليس بوارد علىَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو منى وأنا منه، وهو وارد علىَّ الحوض”.

ولم يكن هؤلاء “المحرومون” بقادرين على منع ما أراده الله لهذه الأمة من الخيرية والرشاد؛ إذ كلما أفسدوا وجدوا من يدفعهم، وكلما أضلوا بدد مئات من الهداة هذا الضلال؛ وإن نظرة واحدة إلى تعليقات “الفيديو” الذى أشرت إليه فى بداية المقال -رغم تدخل الذباب الإلكترونى الموالى لأسياد هذا الداعية- لتثبت أن أمتنا لن تموت، وسيظل الخير قرينًا لها إلى يوم الدين؛ وإن سقط فيها عالم سيقوم مكانه مائة، شعارهم حديث المعصوم -صلى الله عليه وسلم-: “إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”.