حسن أبو هنية يكتب: هل تنجح السلطوية العربية بإعادة تأهيل الأسد؟

- ‎فيمقالات

بعد أن اطمأنت السلطوية العربية على مستقبلها في الحكم عقب عرقلة ثورات الربيع العربي وتخريب مسارات التحول الديمقراطي من خلال البوابة السورية، التي شكلت محطة رئيسية في حروب العبرة لشعوب المنطقة، باشرت سلطويات الثورة العربية المضادة عملية إعادة تأهيل الأسد واستعادة عضويته الطبيعية في نادي السلطويين العرب، ومقره “الجامعة العربية”. فبطرائق عديدة كانت السلطوية العربية المتوحشة شريكة لنظام الأسد الوحشي الذي قتل نحو نصف مليون سوري، وتساهم مساعي السلطوية العربية بتطبيع العلاقة مع دمشق في تعزيز سيطرة الأسد وإعادة تأهيله وإدماجه، ومساعدته على التهرب من المساءلة عن جرائم الحرب.

يدرك الأسد جيداً أهمية الخدمات التي أسداها للسلطويين العرب، فالوحشية التي استخدمها ضد الشعب السوري بتحويل الانتفاضة الثورية السلمية إلى حرب أهلية، وجعل سوريا ساحة رئيسية للإرهاب، ومسرحاً للحروب الطائفية، والصراعات الجيوسياسية، هي خدمات لا تقدر بثمن، أمدت السلطويين العرب بحجة لا نظير لها استخدمت لتشويه الثورات العربية أمام الشعوب العربية وأن كلفة التغيير مهولة، وجعلت المفاضلة بين الاستقرار والأمن والحرية والديمقراطية باهظة ودون جدوى.

لكن مهمة إعادة تأهيل الأسد ليست مهمة سهلة وتبدو مستحيلة، فشرعية سلطة الأسد متدنية، وإعادة بناء صورة جديدة وشرعية مستأنفة من خلال انتخابات مزورة ليست كافية. لكن الأسد يراهن على قدرة السلطوية العربية على إقناع المجتمع الدولي الذي احتفل بقرارات العديد من الدول العربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ما يمكن أن يؤدي إلى علاقات أكثر دفئاً مع الإدارة الأمريكية الحالية.

يشير مسار محاولات السلطوية العربية لإعادة تأهيل الأسد إلى اللحظة التي أنجزت فيها الثورة المضادة انقضاضها على ثورات الربيع العربي، وقد شكلت سنة 2017 لحظة فاصلة، حيث انتهت قصة “أصدقاء سوريا”، وتبدلت الأولويات الدولية والعربية.

وكانت دولة الإمارات من بين أكثر المدافعين إصراراً على تأهيل الأسد، حسب ديفيد شينكر. فعلى الرغم من دعمها للمتمردين في بادئ الأمر، أعادت أبو ظبي فتح سفارتها في دمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2018، ودعت منذ ذلك الحين إلى إعادة عضوية سوريا في “الجامعة العربية”. واكتسبت الفكرة مزيداً من الزخم في آذار/ مارس، بعد أن قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بجولة في دولة الإمارات ودول الخليج الأخرى. وفي مؤتمر صحفي مشترك خلال زيارة لافروف، استخف وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد بمقاربة واشنطن في الأمر، وأعرب عن أسفه لأن القيود الاقتصادية الأمريكية مثل قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا “تجعل الأمر صعباً”، ثم دعا إلى إعادة إعمار سوريا ما بعد الحرب.

بعد جهود الإمارات التي قادت قاطرة الثورات المضادة لتأهيل الأسد، أعادت عُمان سفيرها إلى سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، ثم أرسل الأردن قائماً بالأعمال إلى دمشق في عام 2019، وأعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري أن القاهرة تدعم التطبيع العربي مع سوريا. وكانت السعودية قد أوفدت رئيس استخباراتها إلى دمشق لإجراء محادثات مع نظيره السوري في 3 أيار/ مايو الماضي، كل ذلك جرى رغم تعارضه مع “قرار مجلس الأمن رقم 2254″، الذي ينص على ضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة بمشاركة المغتربين، وكتابة دستور جديد، كما ينص القرار بوضوح على التنفيذ الكامل لـ”بيان جنيف” الصادر في حزيران/ يونيو 2012، والذي دعا إلى انتقال سياسي كامل وإلى دولة سورية ديمقراطية غير طائفية تحترم حقوق الإنسان.

جاء التطور الأخير في سلسلة إعادة تأهيل الأسد بعد ذوبان الجليد في العلاقات الأردنية السورية، حسب موقع “أياري” الإيطالي. وكانت بوادر التطبيع قد ظهرت في الترحيب الذي لقيه وزير دفاع النظام السوري في الأردن في أيلول/ سبتمبر الماضي، في أول زيارة علنية لضابط كبير منذ بداية الحرب الأهلية السورية، من أجل مناقشة تنسيق الأمن عبر الحدود. مع ذلك، كانت ثمة إشارات بعد إعادة فتح معبر نصيب، طريق عبور للبضائع بين أوروبا وتركيا والخليج، بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، وآخر التطورات هو قرار الخطوط الجوية الملكية الأردنية استئناف الرحلات إلى دمشق بعد عشر سنوات من التوقف، ثم إجراء مكالمة هاتفية من الأسد إلى الملك عبد الله الثاني.

وفي واقع الأمر، فإن عملية إعادة تأهيل سوريا تسير على جبهات أخرى، فقد كثفت مصر جهودها لاستعادة سوريا مكانتها في العالم العربي، ونتيجة تلك الجهود استأنفت دول أوروبية جديدة (مثل صربيا) علاقاتها الدبلوماسية مع النظام السوري، وألغى الإنتربول الإجراءات التصحيحية المفروضة على سوريا منذ عام 2012، وأعاد دمج البلاد رسميا في شبكة تبادل المعلومات. ويمكن أن يتعرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان داخلياً وخارجياً لضغوط من ناخبيه ومن روسيا لإحداث تحول مثير، والعديد من الدول العربية تطالب بالمصالحة مع سوريا، وأخيراً تم توقيع اتفاقية جديدة لتوريد الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عبر سوريا.

إن محاولات السلطوية العربية لإعادة تأهيل الأسد تواجه معضلة أساسية تتعلق بطبيعة نظام الأسد نفسه. فعلى مدى عقود بنى النظام السوري سردية تقوم على ثيمة “المقاومة والممانعة” للولايات المتحدة وإسرائيل، ورغم جاذبية الشعار، فقد حوّله نظام الأسد إلى مقولة هزلية من خلال سياساته المحلية والإقليمية البربرية والطائفية، وتحالفاته مع إيران وروسيا، ولذلك أصبح نظام الأسد أسيراً لمقولاته البلاغية التي تحول دون إعادة تأهيله. فالاستدارة نحو إسرائيل لكسب ود الولايات المتحدة والمجتمع الدولي غير ممكنة، فقد قيّد الأسد نفسه بأطروحاته الأيديولوجية وتحالفاته السياسية، التي تقع في صلب المصالح الجيوستراتيجية، وفي آليات أوسع من التحالفات والمنافسات الجيوسياسية التقليدية في المنطقة.

لا يبدو المجتمع الدولي بزعامة واشنطن مكترثاً بسلطوية الأسد ودمويته، وإنما بتغيير تحالفاته التقليدية وعلاقته بإسرائيل، إذ لا تحفل الولايات المتحدة بما يقرب من ستة ملايين لاجئ سوري اضطروا إلى الفرار إلى تركيا والأردن ولبنان، ولا تكترث بما يقرب من نزوح نحو ستة ملايين سوري داخلياً. وقد صمتت أمريكا عندما استخدم الأسد الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، واكتفت بصفقة بعد أن استخدم الأسد الأسلحة الكيميائية ضد السكان المدنيين، فما يعيق إدماج الأسد وتأهيله دولياً هو تحسين علاقته بإسرائيل ونبذ إيران. فحسب يوني ميماني، محلل شؤون الشرق الأوسط في مقال في “مجلة نيوزويك”، إن إعادة تأهيل سوريا على الصعيد الدولي يعوقها تعنت الأسد بشأن المفاوضات المحتملة مع إسرائيل.

مع تنامي محاولات السلطوية العربية إعادة تأهيل ودمج نظام الأسد، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأربعاء الماضي إن الولايات المتحدة لا تعتزم دعم أي جهود لتطبيع العلاقات مع رئيس النظام السوري بشار الأسد أو استئناف التعامل معه، إلى أن يجري إحراز تقدم لا رجعة فيه باتجاه التوصل إلى حل سياسي في سوريا. وأضاف: “ما لا نعتزم القيام به هو التعبير عن أي دعم لجهود تطبيع العلاقات أو إعادة تأهيل الأسد، أو رفع عقوبة واحدة عن النظام السوري، أو تغيير موقفنا لمعارضة إعادة إعمار سوريا حتى يجري إحراز تقدم لا رجوع فيه نحو الحل السياسي، الذي نعتقد أنه ضروري وأساسي”. وجاء ذلك خلال مؤتمر صحفي مشترك عُقد في واشنطن، ضم بلينكن إلى جانب نظيريه الإسرائيلي يائير لبيد، والإماراتي عبد الله بن زايد.

خلاصة القول أن عملية إعادة تأهيل الأسد من لدن السلطوية العربية تقع في إطار استكمال حلقات الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي، لكن معضلة إدماج نظام الأسد لا تكمن في سلطويته وتوحشه، فتلك سمات مشتركة بين أعضاء نادي السلطويين العرب. فالمشكلة الرئيسية أن الأسد بات مكبلاً بسردية المقاومة والممانعة، ومقيداً بتحالفات استراتيجية مع إيران وروسيا، وحسابات جيوسياسية معقدة، تحول دون دخوله نادي المطبعين مع إسرائيل، وهو شرط إعادة تأهيله وإدماجة في المجتمع الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

وفي الوقت الذي ساهمت روسيا بقوة لإعادة سوريا إلى حظيرة الجامعة العربية، وشجعت بطرق عدة فتح حوار وعقد مفاوضات مع إسرائيل، فإن إيران تنظر إلى كل محاولات السلطوية العربية لتأهيل الأسد طريقاً نحو التطبيع مع إسرائيل، وصفقة لإبعاد الأسد عن إيران، بعد سلسلة التطبيعات السلطوية العربية التي تحولت بموجبها إسرائيل إلى صديق وإيران إلى عدو.

ويدرك الأسد جيداً أن استعادة شرعيته الدولية رهن بموافقة الولايات المتحدة، وأن مفتاح قلب أمريكا معلق برضى إسرائيل، لكن معضلة الأسد الكبرى أنه لا يستطيع دفع ثمن التطبيع مع إسرائيل، فهو مقيد بإيران التي تناضل من أجل عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، وفي حال توقيعه سوف تبدأ المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، حينها فقط سيكتمل نادي السلطوية العربية وتنجح جهود إعادة التأهيل.

………..

نقلا عن “عربي 21”