حسن أبو هنية يكتب: نهاية وشيكة للسلطة الفلسطينية

- ‎فيمقالات

تعيش السلطة الفلسطينية اليوم في أحلك أوقاتها، وهي عاجزة عن تقديم أي سردية للشعب الفلسطيني حول مبررات وجودها، فقد تبددت منذ زمن أوهام اتفاق "أوسلو" بجلب الأمن والسلام للشعب الفلسطيني، ولم تكن فكرة تحقيق الاستقلال على جزء يسير من أرض فلسطين وتأسيس دولة سوى أضغاث أحلام، ونتاج مخيلة مريضة بالغرب. إذ لم يتبق من "أوسلو" التي جاءت بالسلطة سوى "التنسيق الأمني"، وفي حقيقة الأمر كان الاتفاق أمنياً منذ البداية، وفي ظل حالة ضعف السلطة وعجزها عن القيام بمهامها الأمنية الموكولة إليها أمريكياً وإسرائيلياً، انتفت الحاجة إلى السلطة الفلسطينية، وباتت نهايتها وشيكة.

منذ بداية العام الحالي تفاقمت أزمة السلطة الفلسطينية بصورة غير مسبوقة، بوجود حكومة إسرائيلية يمينية فاشية، وفي ظل انشغال العالم بالحرب الروسية الأوكرانية. تنامى الحديث الإسرائيلي عن حسم الصراع وليس إدارته بسبب عحز السلطة عن مواجهة المقاومة الفلسطينية، ورغم ذلك لا تزال الولايات المتحدة تراهن على ضرورة الحفاظ على السلطة الفلسطينية وتؤمن بدورها الأمني، وهو ما تكشّف من خلال نشاط محموم للضغط على السلطة وإعادة هيكلتها.

وجاءت قمة مدينة العقبة بجنوب الأردن، في 26 شباط/ فبراير 2023، التي شارك فيها ممثلو السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال بحضور ممثلين عن مصر والولايات المتحدة وبريطانيا، لمناقشة الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية، والتشديد على التنسيق الأمني.

عملية جيش الاحتلال في نابلس أحرجت السلطة الفلسطينية، وأظهرت عجزها رغم إدانة دولة الاحتلال والمطالبة بتوفير حماية دولية للفلسطينيين. وبحسب وصف صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن المداهمة الأخيرة تُقوّض مصداقية السلطة الفلسطينية أكثر، وتجعلها تبدو كجزء من "المؤامرة" الإسرائيلية- الأمريكية ضد الشعب الفلسطينيانعقدت قمة العقبة الأمنية بعد أربعة أيام من قرار القيادة المركزية في جيش الاحتلال بإرسال قوةٍ كبيرة إلى نابلس في وضح النهار، في 22 شباط/ فبراير 2023، بحجة اعتقال أو اغتيال 3 مسلحين فلسطينيين من كتيبة "عرين الأسود"، وأسفرت العملية عن استشهاد 11 فلسطينياً بينهم كبار سن وأطفال وإصابة نحو 100 آخرين.

ولا جدال أن عملية جيش الاحتلال في نابلس أحرجت السلطة الفلسطينية، وأظهرت عجزها رغم إدانة دولة الاحتلال والمطالبة بتوفير حماية دولية للفلسطينيين. وبحسب وصف صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن المداهمة الأخيرة تُقوّض مصداقية السلطة الفلسطينية أكثر، وتجعلها تبدو كجزء من "المؤامرة" الإسرائيلية- الأمريكية ضد الشعب الفلسطيني. وهناك قناعة لدى العديد من الفلسطينيين بأن عملية نابلس جاءت ضمن سياق التنسيق الأمني المتواصل بين قوات أمن السلطة الفلسطينية وبين دولة الاحتلال، وهو ما كان بالفعل.

في حقيقية الأمر فإن السلطة الفلسطينية إذا لم تكن أحد أركان المؤامرة ضد الشعب الفلسطيني، فإنها خاضعة لمقتضياتها، ففي 31 كانون الثاني/ يناير الماضي قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوتي بلينكن، بزيارة للضفة الغربية التقى خلالها برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، حبث أصدر أوامره إلى عباس بتنفيذ "خطة أمنية أمريكية، تهدف إلى إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على مدينتي جنين ونابلس، اللتين أصبحتا بؤرة للاضطراب.

وقد تمت صياغة الخطة الأمنية من قبل منسق الأمن الأمريكي اللفتنانت جنرال مايكل فنزل، وتتضمن الخطة "تدريب قوة فلسطينية خاصة، سيتم نشرها في هذه المناطق" للقضاء على المقاومة الفلسطينية. وحسب التسريبات فإن "أهم فصول الخطة الأمريكية يشير إلى التنسيق الأمني الإسرائيلي الفلسطيني، بحيث سيحضر ممثلون أمريكيون كبار هذه الاجتماعات ذات المستويات العليا من الجانبين لعدة أشهر، وفي هذه الحالة فإن الجانبين سيرسلان تقارير منتظمة للولايات المتحدة حول التقدم في المجال الأمني، بجانب فصل يتناول تدريب القوات الفلسطينية للسيطرة على منطقتي جنين ونابلس، وكجزء من هذا الجهد فإن خمسة آلاف عنصر أمني فلسطيني يخدمون حاليا في جهاز الأمن الوطني سيتم تدريبهم بقواعد تدريبية على الأراضي الأردنية، وسيخضعون لبرنامج تدريبي خاص بإشراف أمريكي".

رغم حالة البؤس التي تعيشها السلطة الفلسطينية، فإن الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية لا تتوقف. وقد جاءت تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، في 1 آذار/ مارس الماضي، أنه يجب "محو" قرية حوارة الفلسطينية، تعبيراً عن الحالة التي وصلت إليها السلطة الفلسطينية. وقد ندد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بتصريحات سموتريتشووصفها بأنها "تحريض على العنف والعداء"، وكان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ند برايس، قد طالب رئيس الحكومة الإسرائيلية "بالتبرؤ" من تصريحات سموتريتش التي وصفها "بالمثيرة للاشمئزاز".

وكانت قرية حوارة جنوبي نابلس وبلدات مجاورة، قد تعرضت إلى هجوم نفذه مئات المستوطنين الإسرائيليين، ما أدى إلى استشهاد فلسطيني وجرح العشرات إضافة إلى إحراق والتسبب بأضرار لعشرات المنازل والسيارات.

الخطيئة الكبرى التي ابتلي بها الشعب الفلسطيني هي بروز قيادة فلسطينية تخلّت عن تعريف "إسرائيل" دولة استعمارية، والتي تجلّت بتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، الذي يعترف بإسرائيل دولة طبيعية، وهو ما سيمهد لانخراط العرب المطبعين في مشروع السلام على الطريقة الاستعماريةحالة عجز وضعف السلطة الفلسطينية، بدت واضحة بعد تراجعها عن مشروع القرار الأخير الذي صاغته دولة الإمارات العربية المتحدة، ممثلة جامعة الدول العربية في مجلس الأمن الدولي، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، لإدانة خطط إسرائيل الاستيطانية المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عقب قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي بمنح الشرعية لتسع مستوطنات يهودية في الضفة الغربية، والموافقة على خطط لبناء عشرة آلاف منزل جديد للمستوطنين اليهود في القدس الشرقية، وقبل يومين من موعد التصويت، اتصل وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن شخصيا بمحمود عباس، وأمره بسحب القرار على الفور، وقد امتثلت السلطة الفلسطينية للأوامر، واستبدلت دولة الإمارات، وبدعم من السلطة الفلسطينية، القرار ببيان رئاسي غير ملزم، بناء على الأوامر الأمريكية. وحسب تقرير موقع أكسيوس الأمريكي فإن خطوة سحب مشروع القرار قد اتُّخِذت ضمن سياق "التفاهم" المشترك، الذي توصلت إليه دولة الاحتلال مع السلطة الفلسطينية.

إن الخطيئة الكبرى التي ابتلي بها الشعب الفلسطيني هي بروز قيادة فلسطينية تخلّت عن تعريف "إسرائيل" دولة استعمارية، والتي تجلّت بتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، الذي يعترف بإسرائيل دولة طبيعية، وهو ما سيمهد لانخراط العرب المطبعين في مشروع السلام على الطريقة الاستعمارية. وقد تكشّفت أوسلو عن تحالف "مدنس" بين قوات الاحتلال ووكلائه المحليين، فعلى غرار سائر التجارب الكولونيالية التقليدية تعمد القوى الاستعمارية إلى تكوين سلطة تسلطيّة استبدادية محلية تفتقر إلى السيادة والشرعية الوطنية، وتوفر لها أجهزة قمعية وأيديولوجية تعمل كوكيل للاحتلال مقابل منحها امتيازات حياتية ومالية على حساب الشعب المحتل.

إذ لم يقم الإسرائيليون في أوسلو بأكثر من الاعتراف بـ"المنظمة" كممثل للشعب الفلسطيني، دون أي وعد بالسماح للفلسطينيين بإقامة دولة أو بالانسحاب من الأراضي المحتلة أو بالتوقف عن بناء المستوطنات، فضلاً عن تفكيك المستوطنات القائمة، أو بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. فقد كان واضحاً منذ البداية أن مهمة السلطة الفلسطينية تقتصر على العمل نيابة عن الاحتلال في منع أي مقاومة للاحتلال، على أمل الحصول في نهاية المطاف على دولة، لكن الحقيقة أن "إسرائيل" لم ترد يوماً أن تمنح أي دولة للفلسطينيين.

توصل الكيان الاستعماري اليهودي إلى أن السلطة الفلسطينية استكملت دورها واستنفدت رصيدها، ولم تعد لها حاجة عقب تجاوز المسألة الفلسطينية في إطار "صفقة القرن" والاندماج في المنطقة من خلال اتفاقات التطبيع مع الصهاينة العربوقد سمحت أوهام الحصول على دولة للسلطة بالتماهي مع مهمتها الحقيقية المرسومة استعمارياً كسلطة انتقالية تتولى قمع مقاومة الشعب الفلسطيني لإسرائيل عبر تنسيقها الأمني، وهي المهمة المركزية للسلطة التي وصفها محمود عباس عام 2014 بـ "المقدسة". وقد توصل الكيان الاستعماري اليهودي إلى أن السلطة الفلسطينية استكملت دورها واستنفدت رصيدها، ولم تعد لها حاجة عقب تجاوز المسألة الفلسطينية في إطار "صفقة القرن" والاندماج في المنطقة من خلال اتفاقات التطبيع مع الصهاينة العرب.

على مدى سنوات منذ إنشاء السلطة الفلسطينية على يد الاستعمار الصهيوني ورعاته وشركائه الغربيين؛ جرى تقويض سردية الاستعمار، وفي سياق نسيان سردية الاستعمار تجاوزت المساعدات الأمريكية والأوروبية الموجهة للسلطة 30 مليار دولار أمريكي، وهي مساعدات تهدف إلى ضمان أمن الاحتلال. فالهدف الأول للمساعدات الأمريكية للفلسطينيين، بموجب وثائق الكونغرس، مشروطة بـ"صد الإرهاب ضد إسرائيل ومحاربته". وتعني سياسة "أمن إسرائيل أولاً"، فيما تعنيه، ضخ ملايين الدولارات الأمريكية في المؤسسة الأمنية الفلسطينية، من أجل "مهننة" عملها لتضمن الاستقرار وحفظ أمن"إسرائيل" واحتلالها وقطعان مستوطنيها ومستعمريها، وبموجب هذا المنطق الأعوج، أضحت السلطة الفلسطينية مقاولا للاحتلال الإسرائيلي.

ولكن هذه المساعدات لم تُدم الاحتلال الإسرائيلي فحسب، وإنما جعلته مربحاً لإسرائيل ولاقتصادها وشركاتها، وقد ربطت كل من إسرائيل والدول المانحة استمرار العملية التفاوضية وتواصل الدعم الدولي والمالي للسلطة بمدى قدرتها على وقف عمليات المقاومة، وضمن ذلك انخراط أجهزة السلطة الأمنية في أنشطة ضد حركات المقاومة، بالتنسيق مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية.

نهاية السلطة الفلسطينية باتت وشيكة، فقد تنامت التقييمات بعدم جدوى وجودها بسبب عجزها عن القضاء على المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، وهو الغرض الرئيس الذي أنشئت السلطة من أجله. وفي ظل حكومة يمينية فاشية تسعى إلى فرض حل نهائي للصراع وليس إدارته، تتنامى مطالب أعضاء اليمين في حكومة نتنياهو الائتلافية بحل السلطة الفلسطينيةفي هذا السياق، لم يعد للسلطة الفلسطينية من وظيفة سوى التنسيق الأمني، وحسب مهند عبد الحميد، فإن التنسيق الأمني بين دولة الاحتلال العميقة، وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية الناشئة اختراع أوجده "اتفاق أوسلو". وللوهلة الأولى، بدا أن التنسيق يتمحور حول انسحاب إسرائيلي من مدن وبلدات ومخيمات فلسطينية وتسليمها لأجهزة الأمن الفلسطينية، فضلاً عن نقل صلاحيات الإدارة المدنية الإسرائيلية المموهة للحكم العسكري، إلى السلطة الفلسطينية.

لكن هذا التنسيق الأمني تمت قراءته بطريقتين مختلفتين: قراءة إسرائيلية منسجمة مع ميزان السيطرة الفعلي وشبه المحكم على الأرض، وقراءة فلسطينية استيهامية تستند إلى المطالبة والمناشدة والوساطات الأمريكية والأوروبية والمصرية، وإلى مستوى بعيد من الارتجال وإسقاط الرغبات.

خلاصة القول أن نهاية السلطة الفلسطينية باتت وشيكة، فقد تنامت التقييمات بعدم جدوى وجودها بسبب عجزها عن القضاء على المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، وهو الغرض الرئيس الذي أنشئت السلطة من أجله. وفي ظل حكومة يمينية فاشية تسعى إلى فرض حل نهائي للصراع وليس إدارته، تتنامى مطالب أعضاء اليمين في حكومة نتنياهو الائتلافية بحل السلطة الفلسطينية.

ولا يبدو أن ثمة قناعة راسخة بضرورة بقاء السلطة، سوى فقدان البدائل وشح الخيارات، وهو ما يفسر حرص الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها العرب على الحفاظ على وجود السلطة وإعادة بناء أجهزتها الأمنية، كأحد أهم مقتضيات اتفاق "أوسلو"، لضمان أمن إسرائيل وديمومة وجود المستعمرة الاستيطانية اليهودية على أرض فلسطين على المدى البعيد، وعلى المدى القريب يجب تأمين هدوء نسبي قبيل حلول شهر رمضان وخلاله. ومن أجل هذه الغاية، تنشط أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما العرب من أجل الحفاظ على التنسيق الأمني، لكن ذلك لا يعني سوى أن السلطة الفلسطينية تحتضر وتوشك على النهاية.

………….

نقلا عن "عربي 21"