في مصر.. يموت بائع البطاطا جوعًا ليعيش الباشا ويبيع لمبات فينوس!

- ‎فيتقارير

يمر عم رجب بائع البطاطا المتجول كل صباح أمام مقر عمله القديم، على رصيف شارع الإسعاف بوسط القاهرة، ويتوقف لثوانٍ متأملاً بأسى تلك البقعة التي كانت يومًا مصدر رزقه، لا ينازعه فيها أحد من شركاء الرصيف، والتي احتلها اليوم منفذ بيع لمبات "فينوس اللدّ" التابع للجيش.

هذان المتران المربعان كانا مصدر رزقه، قبل أن تمنحه حكومة الانقلاب مكانا بديلا في منطقة الترجمان على بعد ميلين من مكانه الأصلي؛ حيث توجد محطات حافلات ومحلات تجارية فشلت حكومة الانقلاب في تسويق معظمها، وبالتالي فالزبائن قليلون جدًّا مقارنة بمكانه القديم في شارع الإسعاف، كما يقول عم رجب.

"لقد خدعتنا الحكومة لتسلب أماكننا لصالحها" يؤكد عم رجب أنه وزملاءه الذين أجبروا على إخلاء مناطقهم كانوا يعلمون من البداية بتدهور حالة المكان الجديد، لكنهم قبلوه بوعد من حكومة الانقلاب بتنشيطه، مضيفًا: "لم يكن لنا خيار آخر، إما هذا المكان أو لا شيء".

مخربون وعملاء!

وبدا من حديث الباعة الجائلين أنهم اعتقدوا أن حكومة الانقلاب ستتركهم للأبد مكافأة على أدوارهم في مهاجمة ثوار يناير 2011، ثم مهاجمة مظاهرات مناصري الرئيس الشهيد محمد مرسي عقب انقلاب صيف 2013؛ حيث كانت تستغل الباعة الجائلين في مطاردة المتظاهرين بوصفهم مخربين وعملاء!

تقول عائشة محمود: "حضرتك لو بائع بسيط على قد حاله قعد على جنب الطريق يبيع مناديل علشان يعيش منها حضرتك عارفه بيحصله ايه. لكن القوات المسلحه توقف عربيات فينوس ومحلات السلع الاستهلاكية واللحوم في أي مكان يعجبهم ده غير الرتبة من الشرطة أو الجيش اللي قاعد سيادته علشان يوفر الأمن للمجمع!".

ويفتح الحديث عن الباعة الجائلين مغارة إمبراطورية الجيش الاقتصادية بما له من نفوذ واسع وامتيازات لا حصر لها، تقضي على تكافؤ الفرص مع المستثمرين المصريين والأجانب، وهو ما ينعكس على اقتصاد البلاد من مخاطر أهمها هروب الاستثمار لعدم القدرة على المنافسة أمام المؤسسة العسكرية التي  اخترقت جميع قطاعات الاقتصاد وتنافس القطاع الخاص في كل شيء.

إضافة إلى هروب الاستثمار، فإن هذا الوضع يمثل خطورة على اقتصاد البلاد، ويؤدي إلى ركود مزمن سوف يفضي لا محالة إلى غلق آلاف الشركات وزيادة معدلات البطالة.

ولا عجب عند مَشيِك في شوارع القاهرة أن تصادف شابًا وسيمًا بملابس أنيقة يجر عربة متنقلة، أو فتاة تعترض طريقك في محاولة لإقناعك بشراء ما تحمله من سلع لقاء مبلغ زهيد.

فعلى مدار سنوات الانقلاب الماضية، لم يغب عن شوارع مصر أكثر من 7 ملايين بائع، بينهم رجال ونساء وأطفال، وشباب من أصحاب المؤهلات العليا والمتوسطة وآخرين أميين، أنهكت البطالة المتفاقمة كواهلهم.

هؤلاء يفترشون الأرصفة ويبيعون كل شيء، ولا يكاد يخلو مكان من الباعة الذين ينجحون دائمًا في تحدي قرارات حكومة الانقلاب بإنهاء وجودهم بالميادين والشوارع، وسط ملاحقة مشددة من عناصر الأمن والشرطة.

ويختار هؤلاء الباعة الأماكن الشعبية دون الأسواق المخصصة لهم؛ لأن المشكلة تكمن في أن تلك الأماكن دائمًا ما تكون بعيدة عن التجمعات السكنية وغير مرتادة.

الاستبدادية الشمولية

هيمنة الجيش الاقتصادية تجعل الجنرالات أكثر تمسكًا واستماتة في الدفاع عن هذه الإمبراطورية، وهو ما ينعكس على استمرار المؤسسة العسكرة في فرض تصوراتها الاستبدادية الشمولية على السياسة والاقتصاد وباقي القطاعات، وعلى الأرجح ومع إضافة العوامل الأخرى المتعلقة بالاستبداد والغلاء وتصاعد مستويات الغضب الشعبي؛ فإن احتمالات الصدام بين الشعب والمؤسسة العسكرية قائمة، إلا إذا تداركت المؤسسة العسكرية أخطاءها وخرج من بينهم من يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

بجانب تراجع المستوى العسكري للجيش المصري، وهو ما ترجم عنه بفشل قواته في مواجهة العناصر المسلحة في سيناء؛ ما ألجأ القيادة السياسية للاستعانة بالجيش الإسرائيلي في مواجهة تلك المجموعات، وتنفيذ أكثر من 100 عملية عسكرية في سيناء خلف خطوط الجيش المصري، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخرًا، واعترف السفيه السيسي بنفسه بالأمر الذي يعد كارثيًّا على أي جيش، خلال حواره مع قناة سي بي إس الأمريكية.

ألبان الأطفال

ويهيمن الجيش على الاقتصاد المصري حتى كوَّن إمبراطورية ضخمة ممتدة الأطراف طالت جميع القطاعات الاقتصادية الصناعية والتجارية والزراعية ومشروعات البنية التحتية والطرق والكباري وإنشاء المدن والجسور والكباري ومشروعات الأغذية وألبان الأطفال وحتى الكعك والبسكوت.

وحاول السفيه السيسي التقليل من حجم هذه الإمبراطورية، زاعمًا أن نسبة اقتصاد الجيش إلى الاقتصاد عمومًا لا تزيد عن 2 إلى 3% فقط،  لكن تقديرات وزير الدفاع الأسبق المشير محمد حسين طنطاوي في تصريحات سابقة بلغت بهذه النسبة إلى 30%.

لكن تقديرات موقع ميدل إيست آي" البريطاني تصل إلى أن نسبة استحواذ الجيش على الاقتصاد المصري إلى 60%، وتعاظمت إمبراطورية الجيش في أعقاب اتفاقية كامب ديفد للسلام مع الكيان الصهيوني في 1978، والتي قلصت المهام القتالية للجيش ودفعته نحو مهام السيطرة الداخلية.

وعقب الاتفاقية اتجه الجيش ككتلة إدارية من العمل العسكري البحت إلى السيطرة على ملفات الاقتصاد الداخلي وريادة الأعمال؛ بحيث بات يسيطر بموجب القانون على أكثر من 90% من أراضي الدولة، كما أن القوات المسلحة تملك حق الانتفاع المتعدد بالمجندين إجباريًّا، عبر توزيعهم على مشاريع الجيش الاقتصادية، لا العسكرية فقط.

وعقب الإطاحة بمبارك قال اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشئون المالية: إن الجيش "لن يسلم أبدًا هذه المشروعات لأي سلطة أخرى مهما كانت"، وأضاف أن هذه المشروعات "ليست من الأصول التي تمتلكها الدولة، ولكنها إيرادات من عرق وزارة الدفاع والمشاريع الخاصة بها"؛ ما يؤكد أن الجيش بات دولة فوق الدولة.