سعيد الحاج يكتب: هل العملية التركية البرية في سوريا حتمية؟

- ‎فيمقالات

في حديثه مع الصحفيين لدى عودته من قطر -حيث شارك في افتتاح كأس العالم هناك- قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن العملية الجوية التي نفذتها القوات الجوية التركية في كل من العراق وسوريا ليست الرد الوحيد على تفجير إسطنبول الإرهابي الذي سقط ضحيته 6 شهداء من المدنيين، وإنها (أي العملية الجوية) مجرد البداية وستتبعها عملية برية.

وفي حديثه في مناسبة حزبية بعد ذلك بأيام، قال أردوغان إن العملية البرية المقصودة ستستهدف مناطق مثل تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني) التي تأتي منها عادة التهديدات والاستهدافات للداخل التركي، وآخرها القصف الصاروخي الذي استهدف مدن الجنوب التركي بعد العملية الجوية.

في الإطار الإستراتيجي، ما زالت أنقرة ترى أن العمليات التي نفذتها في سوريا لم تؤد تماما الغرض منها، وما زالت بحاجة لاستكمال حتى تستطيع الحيلولة دون تأسيس كيان سياسي مرتبط بالعمال الكردستاني على حدودها الجنوبية

ما المستجد؟

أعادت هذه التصريحات للأذهان تهديدات تركيا بعملية جديدة في شمال سوريا في مايو/أيار الفائت، التي تأتي في صلب إستراتيجية "الحرب الاستباقية" لمكافحة الإرهاب التي تنتهجها أنقرة منذ سنوات، وتصب في خدمة هدف إقامة منطقة آمنة لعودة السوريين في الشمال السوري. ولكن العملية تأجلت لأسباب في مقدمتها مواقف الدول المنخرطة في القضية السورية، خاصة روسيا والولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن معارضة أي من هاتين الدولتين أو كلتيهما للعملية قد تعني تعقيدات إضافية لها تزيد من مدتها وتحدياتها وكلفتها الاقتصادية والبشرية.

فما الذي تغيّر الآن ليعطي التهديدات التركية جدية أكثر وحظا أوفر للتطبيق العملي؟

وفق المعطيات الحالية، تبدو العملية البرية التي تلوّح بها تركيا اليوم شبه حتمية؛ ففي الإطار الإستراتيجي ما زالت أنقرة ترى أن العمليات التي نفذتها في سوريا لم تؤد تماما إلى الغرض منها، وما زالت بحاجة لاستكمال، بحيث تستطيع الحيلولة دون تأسيس كيان سياسي مرتبط بالعمال الكردستاني على حدودها الجنوبية، وإبعاد مسلحي المجموعات الانفصالية عن حدودها حتى عمق 30 كيلومترا، وبالتالي القدرة على إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري تكون جاذبة لعودة المقيمين السوريين على الأراضي التركية.

وفي الإطار السياقي، فإن تفجير إسطنبول وما بعده من تطورات فرضا العملية البرية كخيار ضروري؛ ذلك أن أنقرة أطلقت عملية "المخلب-السيف" الجوية ردًّا على الهجوم في ميدان تقسيم، بهدف محاسبة المتورطين فيه، ورسالة ردع لمنع هجمات إضافية. لكن القصف على المدن التركية الحدودية استمر بعد العملية الجوية موقعا ضحايا كما سقط عدد من الجنود الأتراك في العمليات في العراق، مما يدفع مرة أخرى لفكرة الرد والردع. ولأن القصف الجوي مرة أخرى ليس مضمون النتائج ولا حاسما في هذا الإطار، فإن العملية البرية ستكون خيارا منطقيا هنا.

من جهة أخرى، ليس من المنطقي أن تترك تركيا "الكلمة الأخيرة" في هذا السجال للعمال الكردستاني والمنظمات المرتبطة به في سوريا، كما أن التأييد الداخلي للعملية البرية شعبيا وحزبيا كبير وطاغٍ يصل في بعض الأحيان لدرجة المطالبة بها وليس فقط دعمها إن حصلت. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في يونيو/حزيران القادم؛ تصبح هذه الحسابات أكثر أهمية وحساسية.

ومن حيث مواقف الدول المنخرطة في القضية السورية، التي كانت مواقفها ضمن أسباب تأجيل العملية سابقا، فيبدو أنها اليوم أكثر تفهما لدوافع تركيا، أو لنقل إن الموقف التركي اليوم إزاءها أقوى من السابق. ذلك أن الأدوار التي لعبتها تركيا على هامش الحرب الروسية-الأوكرانية، بما في ذلك الوساطة واتفاق تصدير الحبوب واتفاق تبادل الأسرى، ودورها في ملف انضمام السويد وفنلندا للناتو، وفي التهديدات الأمنية المستجدة للقارة الأوروبية بعد الحرب؛ كلها من العوامل التي تجعل يد أنقرة اليوم أقوى من السابق، لا سيما إذا أضيف لكل ذلك تفجير إسطنبول وما تلاه من استهداف لمدنيين أتراك اللذان استدعيا تضامنا غير مسبوق مع أنقرة ودعما سرديتها وموقفها؛ ولذلك فقد صدرت عدة تصريحات من كل من موسكو وواشنطن تؤيد حق تركيا في الدفاع عن نفسها ومكافحة الإرهاب.

وفي المجمل؛ تبدو العملية البرية في سوريا شبه حتمية من حيث الدوافع، فهل هي كذلك في إطار التطبيق العملي؟

الخيارات

بيد أن التصريحات الروسية والأميركية الداعمة لحق تركيا في الدفاع عن نفسها لم تبد التأييد نفسه لعملية تركية برية في سوريا، بل على العكس حذرت كلتا العاصمتين أنقرة من ارتدادات عملية من هذا النوع؛ مما يعني أن الأخيرة لم تصل بعد -في ما يبدو- لإقناعهما بأحقية العملية.

ولأن موقف الدولتين مهم من أجل نجاح العملية وعدم مواجهتها تحديات كبيرة من الجوانب السياسية والعسكرية واللوجيستية، فإن أنقرة اليوم في ظل كل ما سبق أمام عدد من الخيارات بخصوص العملية البرية:

في المقام الأول، لا يبدو أن إرجاء العملية البرية مدة طويلة طمعا في إمكانية إقناع روسيا والولايات المتحدة بها سيكون خيارًا منطقيًّا، فضلا عن إلغاء فكرة العملية بالكامل. فما سبق من دوافع وسياقات -خاصة العامل المحلي- كلها عوامل ضاغطة باتجاه حتمية العملية، بل وعدم تأخيرها.

من جهة ثانية، يبقى ثمة احتمال ممكن لتأجيل أنقرة العملية البرية في حال تحققت أهدافها قبل موعد إطلاقها، والقصد هو إخراج روسيا (والولايات المتحدة) مسلحي قوات سوريا الديمقراطية من مناطق مثل منبج وتل رفعت وإبعادهم حتى عمق 30 كيلومترا عن الحدود التركية. وذكرت بعض التقارير الإخبارية أن روسيا سعت لإقناع وحدات الحماية/قوات سوريا الديمقراطية بهذا الأمر، دون أن تستجيب الأخيرة.

الخيار الثالث أن تقتنع موسكو وواشنطن، وبدرجة أقل طهران، بدوافع العملية البرية وأحقية أنقرة بخصوصها، مما يعني عدم السعي لإعاقتها، وهو أمر بات ممكنا أكثر من أي وقت مضى وفق المتغيرات التي سلف تفصيلها.

لكن ما صدر عن العاصمتين لا يوحي بقناعة حالية أو متوقعة قريبا، مما قد يدفع تركيا لخيار إطلاق العملية رغم التحفظات الروسية والأميركية. وقد سبق لتركيا أن فعلت ذلك في عملية "نبع السلام" في 2019، حيث أطلقتها رغم معارضة موسكو وواشنطن، قبل أن توقفها لاحقا إثر تفاهمات مع كل منهما قضت بتعهد الطرفين بإبعاد مسلحي الوحدات عن الحدود التركية إلى عمق 30 كيلومترا، وهو ما تقول أنقرة إنه لم ينفذ حتى اليوم.

هذا الخيار (نموذج عملية نبع السلام) يبدو ممكنا ومرجحا كذلك في حال أقدمت تركيا على عملية محدودة تقتصر مثلا على كل من تل رفعت ومنبج، كمرحلة أولى على أقل تقدير، حيث من المستبعد أن تستثير عملية بهذا السقف ردة فعل عملية على الأرض من روسيا أو الولايات المتحدة. كما أن من شأن عملية من هذا النوع أن تعيد طرح التعهدات الروسية والأميركية للنقاش والتفاوض بين أنقرة من جهة وموسكو وواشنطن من جهة أخرى.

أما عملية موسعة ضد مجمل وجود وحدات الحماية/قوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري، وخصوصا في منطقة شرق الفرات، فليست مرجحة وفق المعطيات الحالية، وستبقى مؤجلة في الوقت الراهن في انتظار نضوج ظروف أخرى تجعلها أو تجعل جزءا منها ممكنًا أو مرجحًا.

وختامًا، يمكن القول إن تركيا قد استكملت الإعدادات اللوجيستية والعسكرية، وإنه من غير المتوقع أن تواجه تحديات حقيقية من قبل المنظمات الانفصالية، إلا أن ما تعمل عليه حاليًا مرتبط أكثر بشبكة الأمان السياسية للعملية، وبما يضمن تنفيذها بالحد الأدنى من الوقت والكلفة والتحديات، وهو ما سيسهم في تحديد ساعة الصفر وحدود العملية وأهدافها إلى حد كبير.

……….

نقلا عن "الجزيرة نت"